فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولا دلالة بها على ذلك، فإنه لم يقم دليل على أن الملائكة من القليل الخارج عن هذا الكثير، ولو سلمنا ذلك فليس فيما خرج عن هذا الكثير ما يفيد أنه أفضل من بني آدم، بل غاية ما فيه أنه لم يكن الإنسان مفضلًا عليه.
فيحتمل أن يكون مساويًا للإنسان، ويحتمل أن يكون أفضل منه، ومع الاحتمال لا يتم الاستدلال، والتأكيد بقوله: {تَفْضِيلًا} يدل على عظم هذا التفضيل وأنه بمكان مكين، فعلى بني آدم أن يتلقوه بالشكر ويحذروا من كفرانه.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {يُزْجِى} قال: يجري، وأخرجوا عن قتادة قال: يسيرها في البحر.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {حاصبا} قال: مطر الحجارة.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة قال: حجارة من السماء.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس {قَاصِفًا مّنَ الريح} قال: التي تغرق.
وأخرج أبو عبيد، وابن المنذر، عن عبد الله بن عمرو قال: القاصف والعاصف في البحر.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {قَاصِفًا} قال: عاصفًا، وفي قوله: {ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} قال: نصيرًا.
وأخرج الطبراني، والبيهقي في الشعب، والخطيب في تاريخه عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من شيء أكرم على الله يوم القيامة من ابن آدم قيل: يا رسول الله ولا الملائكة؟ قال: ولا الملائكة، الملائكة مجبورون بمنزلة الشمس والقمر» وأخرجه البيهقي من وجه آخر عن ابن عمرو موقوفًا قال: وهو الصحيح.
وأخرج البيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال: المؤمن أكرم على الله من ملائكته.
وأخرج الطبراني عن ابن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الملائكة قالت: يا رب أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها ويشربون ويلبسون ونحن نسبح بحمدك ولا نأكل ولا نشرب ولا نلهو، فكما جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة، قال: لا أجعل صالح ذرّية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان» وأخرجه عبد الرزاق، وابن جرير عن زيد بن أسلم قال: قالت الملائكة.
وإسناد الطبراني هكذا: حدثنا أحمد بن محمد بن صدقة البغدادي، حدّثنا إبراهيم بن عبد الله بن خالد المصيصي، حدّثنا حجاج بن محمد، حدثنا أبو غسان محمد بن مطرف، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره.
وأخرج ابن عساكر من طريق عروة بن رويم قال: حدثني أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحو حديث ابن عمرو الأول مع زيادة.
وأخرج نحوه البيهقي أيضًا في الأسماء والصفات من وجه آخر عن عروة بن رويم عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب من طرق عن ابن عباس في قوله: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ} قال: جعلناهم يأكلون بأيديهم وسائر الخلق يأكلون بأفواههم.
وأخرج الحاكم في التاريخ، والديلمي عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله: «الكرامة الأكل بالأصابع». اهـ.

.قال سيد قطب:

{وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)} انتهى. الدرس السابق بتقرير أن الله وحده هو المتصرف في مصائر العباد، إن شاء رحمهم وإن شاء عذبهم؛ وأن الآلهة التي يدعونها من دونه لا تملك كشف الضر عنهم ولا تحويله إلى سواهم.
فالآن يستطرد السياق إلى بيان المصير النهائي للبشر جميعًا كما قدره الله في علمه وقضائه وهو انتهاء القرى جميعها إلى الموت والهلاك قبل يوم القيامة، أو وقوع العذاب ببعضها إن ارتكبت ما يستحق العذاب. فلا يبقى حي إلا ويلاقي نهايته على أي الوجهين: الهلاك حتف أنفه أو الهلاك بالعذاب.
وبمناسبة ذكر العذاب الذي يحل ببعض القرى يشير السياق إلى ما كان يسبقه من الخوارق على أيدي الرسل قبل رسالة محمد صلى الله عليه وسلم هذه الخوارق التي امتنعت في هذه الرسالة، لأن الأولين الذين جاءتهم كذبوا بها ولم يهتدوا فحق عليهم الهلاك. والهلاك لم يقدر على أمة محمد لذلك لم يرسله بالخوارق المادية، وما كانت الخوارق إلا تخويفًا للأمم الخالية مما يحل بها من الهلاك إذا كذبت بعد مجيئها.
وقد كف الله الناس عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعصمه منهم فلا يصلون إليه. وأراه الرؤيا الصادقة في الإسراء لتكون ابتلاء للناس، ولم يتخذ منها خارقة كخوارق الرسالات من قبل، وخوفهم الشجرة الملعونة في القرآن شجرة الزقوم التي رآها في أصل الجحيم، فلم يزدهم التخويف إلا طغيانًا. وإذن فما كانت الخوارق إلا لتزيدهم طغيانًا.
وفي هذا الموضع من السياق تجيء قصة إبليس مع آدم، وإذن الله لإبليس في ذرية آدم إلا الصالحين من عباده فقد عصمهم من سلطانه وإغوائه.. فتكشف القصة عن أسباب الغواية الأصيلة التي تقود الناس إلى الكفر والطغيان، وتبعدهم عن تدبر الآيات.
ويلمس السياق في هذا الموضع وجدان الإنسان بذكر فضل الله على بني آدم، ومقابلتهم هذا الفضل بالبطر والجحود، فلا يذكرون الله إلا في ساعات الشدة. فإذا مسهم الضر في البحر لجأوا إليه. فإذا أنجاهم إلى البر أعرضوا. والله قادر على أن يأخذهم في البر وفي البحر سواء! ولقد كرمهم الله وفضلهم على كثير ممن خلقه، ولكنهم لا يشكرون ولا يذكرون.
ويختم هذا الدرس بمشهد من مشاهد القيامة؛ يوم يلقون جزاءهم على ما قدمت أيديهم، فلا مجال للنجاة لأحد إلا بما قدمت يداه.
{وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابًا شديدًا. كان ذلك في الكتاب مسطورا}.. فقد قدر الله أن يجيء يوم القيامة ووجه هذه الأرض خال من الحياة، فالهلاك ينتظر كل حي قبل ذلك اليوم الموعود.
كذلك قدر العذاب لبعض هذه القرى بما ترتكب من ذنوب. ذلك ما ركز في علم الله. والله يعلم ما سيكون علمه بما هو كائن. فالذي كان والذي سيكون كله بالقياس إلى علم الله سواء.
وقد كانت الخوارق تصاحب الرسالات لتصديق الرسل وتخويف الناس من عاقبة التكذيب وهي الهلاك بالعذاب. ولكن لم يؤمن بهذه الخوارق إلا المستعدة قلوبهم للإيمان؛ أما الجاحدون فقد كذبوا بها في زمانهم. ومن هنا جاءت الرسالة الأخيرة غير مصحوبة بهذه الخوارق:
{وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون. وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها. وما نرسل بالآيات إلا تخويفا}.
إن معجزة الإسلام هي القرآن. وهو كتاب يرسم منهجًا كاملًا للحياة. ويخاطب الفكر والقلب، ويلبي الفطرة القويمة. ويبقى مفتوحًا للأجيال المتتابعة تقرؤه وتؤمن به إلى يوم القيامة. أما الخارقة المادية فهي تخاطب جيلًا واحدًا من الناس، وتقتصر على من يشاهدها من هذا الجيل.
على أن كثرة من كانوا يشاهدون الآيات لم يؤمنوا بها. وقد ضرب السياق المثل بثمود، الذين جاءتهم الناقة وفق ما طلبوا واقترحوا آية واضحة. فظلموا بها أنفسهم وأوردها موارد الهلكة تصديقًا لوعد الله بإهلاك المكذبين بالآية الخارقة. وما كانت الآيات إلا إنذارًا وتخويفًا بحتمية الهلاك بعد مجيء الآيات.
هذه التجارب البشرية اقتضت أن تجيء الرسالة الأخيرة غير مصحوبة بالخوارق. لأنها رسالة الأجيال المقبلة جميعها لا رسالة جيل واحد يراها. ولأنها رسالة الرشد البشري تخاطب مدارك الإنسان جيلًا بعد جيل، وتحترم إدراكه الذي تتميز به بشريته والذي من أجله كرمه الله على كثير من خلقه.
أما الخوارق التي وقعت للرسول صلى الله عليه وسلم وأولها خارقة الإسراء والمعراج فلم تتخذ معجزة مصدقة للرسالة. إنما جعلت فتنة للناس وابتلاء.
{وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانًا كبيرا}.
ولقد ارتد بعض من كان آمن بالرسول صلى الله عليه وسلم بعد حادثة الإسراء، كما ثبت بعضهم وازداد يقينًا. ومن ثم كانت الرؤيا التي أراها الله لعبده في تلك الليلة {فتنة للناس} وابتلاء لإيمانهم. أما إحاطة الله بالناس فقد كانت وعدًا من الله لرسوله بالنصر، وعصمة له من أن تمتد أيديهم إليه.
ولقد أخبرهم بوعد الله له وبما أطلعه الله عليه في رؤياه الكاشفة الصادقة. ومنه شجرة الزقوم التي يخوف الله بها المكذبين. فكذبوا بذلك حتى قال أبو جهل متهكمًا: هاتوا لنا تمرًا وزبدًا، وجعل يأكل من هذا بهذا ويقول: تزقموا فلا نعلم الزقوم غير هذا!
فماذا كانت الخوارق صانعة مع القوم لو كانت هي آية رسالته كما كانت علامة الرسالات قبله ومعجزة المرسلين؟ وما زادتهم خارقة الإسراء ولا زادهم التخويف بشجرة الزقوم إلا طغيانًا كبيرًا؟
إن الله لم يقدر إهلاكهم بعذاب من عنده.
ومن ثم لم يرسل إليهم بخارقة. فقد اقتضت إرادته أن يهلك المكذبين بالخوارق. أما قريش فقد أمهلت ولم تؤخذ بالإبادة كقوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب.. ومن المكذبين من آمن بعد ذلك وكان من جند الإسلام الصادقين. ومنهم من أنجب المؤمنين الصادقين. وظل القرآن معجزة الإسلام كتابًا مفتوحًا لجيل محمد صلى الله عليه وسلم وللأجيال بعده، فآمن به من لم يشهد الرسول وعصره وصحابته. إنما قرأ القرآن أو صاحب من قرأه. وسيبقى القرآن كتابًا مفتوحًا للأجيال، يهتدي به من هم بعد في ضمير الغيب، وقد يكون منهم من هو أشد إيمانًا وأصلح عملًا، وأنفع للإسلام من كثير سبقوه..
وفي ظل الرؤيا التي رآها الرسول صلى الله عليه وسلم واطلع فيها على ما اطلع من عوالم، والشجرة الملعونة التي يطعم منها أتباع الشياطين.. يجيء مشهد إبليس الملعون، يهدد ويتوعد بإغواء الضالين: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينًا قال أرأيتك هذا الذي كرَّمت عليَّ لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكنَّ ذريته إلا قليلًا قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورًا واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورًا إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا} إن السياق يكشف عن الأسباب الأصيلة لضلال الضالين، فيعرض هذا المشهد هنا، ليحذر الناس وهم يطلعون على أسباب الغواية، ويرون إبليس عدوهم وعدو أبيهم يتهددهم بها، عن إصرار سابق قديم! {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا؟} إنه حسد إبليس لآدم يجعله يذكر الطين ويغفل نفخة الله في هذا الطين! ويعرض إبليس بضعف هذا المخلوق واستعداده للغواية، فيقول في تبجح: {أرأيتك هذا الذي كرمت عليّ؟} أترى هذا المخلوق الذي جعلته أكرم مني عندك؟ {لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا} فلأستولين عليهم وأحتويهم وأملك زمامهم وأجعلهم في قبضة يدي أصرف أمرهم.
ويغفل إبليس عن استعداد الإنسان للخير والهداية استعداده للشر والغواية. عن حالته التي يكون فيها متصلًا بالله فيرتفع ويسمو ويعتصم من الشر والغواية، ويغفل عن أن هذه هي مزية هذا المخلوق التي ترفعه على ذوي الطبيعة المفردة التي لا تعرف إلا طريقًا واحدًا تسلكه بلا إرادة. فالإرادة هي سر هذا المخلوق العجيب.
وتشاء إرادة الله أن يطلق لرسول الشر والغواية الزمام، يحاول محاولته مع بني الإنسان: {قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا} اذهب فحاول محاولتك اذهب مأذونًا في إغوائهم. فهم مزودون بالعقل والإرادة، يملكون أن يتبعوك أو يعرضوا عنك {فمن تبعك منهم} مغلبًا جانب الغواية في نفسه على جانب الهداية، معرضًا عن نداء الرحمن إلى نداء الشيطان، غافلًا عن آيات الله في الكون، وآيات الله المصاحبة للرسالات، {فإن جهنم جزاؤكم} أنت وتابعوك {جزاء موفورا}.
{واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك}.
وهو تجسيم لوسائل الغواية والإحاطة، والاستيلاء على القلوب والمشاعر والعقول. فهي المعركة الصاخبة، تستخدم فيها الأصوات والخيل والرجل على طريقة المعارك والمبارزات. يرسل فيها الصوت فيزعج الخصوم ويخرجهم من مراكزهم الحصينة، أو يستدرجهم للفخ المنصوب والمكيدة المدبرة. فإذا استدرجوا إلى العراء أخذتهم الخيل، وأحاطت بهم الرجال!
{وشاركهم في الأموال والأولاد}..
وهذه الشركة تتمثل في أوهام الوثنية الجاهلية، إذ كانوا يجعلون في أموالهم نصيبًا للآلهة المدعاة فهي للشيطان وفي أولادهم نذورًا للآلهة أو عبيدًا لها فهي للشيطان كعبد اللات وعبد مناة. وأحيانًا كانوا يجعلونها للشيطان رأسًا كعبد الحارث!
كما تتمثل في كل مال يجبى من حرام، أو يتصرف فيه بغير حق، أو ينفق في إثم. وفي كل ولد يجيء من حرام. ففيه شركة للشيطان.
والتعبير يصور في عمومه شركة تقوم بين إبليس وأتباعه تشمل الأموال والأولاد وهما قوام الحياة!
وإبليس مأذون في أن يستخدم وسائله كلها، ومنها الوعود المغرية الخادعة: {وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا} كالوعد بالإفلات من العقوبة والقصاص. والوعد بالغنى من الأسباب الحرام. والوعد بالغلبة والفوز بالوسائل القذرة والأساليب الخسيسة..